رفع راية الجهاد ضد البيزنطيين وأسس "إمارة حلب".. سيف الدولة الحمداني

سيف الدولة الحمداني، ولد عام 915 م، استطاع توسيع حدود الدولة الحمدانية، وتأسيس "إمارة حلب" التي أصبحت موطنا للفلاسفة والشعراء من أمثال الفارابي وأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني، وأمضى معظم حياته في ساحات المعارك، حتى قيل إنه جمع الغبار الذي تراكم على درعه وملابسه من معركة تلو الأخرى وشكّل منه لبنة وأوصى أن توضع تحت رأسه عند دفنه. توفي عام 967 م.

برز اسم "سيف الدولة الحمداني" باعتباره الأمير العربي الوحيد الذي شكّل تهديدا على البيزنطيين في زمن انهارت فيه الخلافة العباسية وانشغل الحكام والأمراء العرب بالمنافسة على السلطة.

المولد والنشأة

علي بن عبد الله أبي الهيجاء بن حمدان، ولد عام 915 م وينتمي إلى بني حمدان الذين يشكلون فرعا من فروع بني تغلب، القبيلة العربية الشهيرة التي استوطنت الجزيرة الفراتية في عصر ما قبل الإسلام، وكانوا المسيطرين على الموصل وما حولها، إلى أن فرضت الدولة العباسية سلطتها في المنطقة.

مع ذلك استطاع بنو حمدان الحفاظ على مكانتهم في الموصل حتى في الفترات التي كان فيها النفوذ العباسي قويا، وبفضل جهاد سيف الدولة الحمداني ضد البيزنطيين وحفاظه على إمارته رغم التحديات التي واجهها، أصبح يعدّ من ألمع الأسماء في تاريخ الدولة الحمدانية.

التجربة السياسية.. تأسيس الدولة الحمدانية

كان عمر الخليفة العباسي المقتدر بالله 13 عاما فقط عند توليه الخلافة بعد أخيه علي المكتفي بالله، ووقتها عانت شؤون الدولة من اضطرابات في عهده، لصغر سنه من ناحية ولاستئثار والدته "السيدة شغب" بالحكم ومقاليد الأمور من ناحية أخرى.

وفي عهد جعفر المقتدر بالله، تولى حكم مدينة الموصل وما يحيط بها أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء الملقب بـ"ناصر الدولة"، الذي عرف بطموحه وقدراته السياسية، وما إن استلم الحكم حتى سعى إلى الانفصال عن سلطة الخلافة وتأسيس إمارة خاصة به.

ونجحت مساعي "ناصر الدولة" وأعلن عن ولادة دولة بني حمدان (الدولة الحمدانية) عام 930 م، واستطاع أن يوسع حكمه ليشمل مدنا أخرى شمال العراق، ثم انتزع اعترافا بدولته من الخليفة العباسي الذي منحه الأمان مقابل مبلغ من المال يدفعه للخلافة سنويّا.

واعتبارا من عام 936 م، برز اسم علي بن عبد الله أبي الهيجاء بن حمدان، أخو ناصر الدولة الذي بات يلقب لاحقا بـ"سيف الدولة"، وقد كان له دور محوري في مساعدة أخيه في القضاء على المتمردين ضد الدولة الحمدانية.

وعندما قويت شوكة ناصر الدولة، توقف عن دفع الأموال للخلافة، لكن عندما استولى البويهيون (وهم سلالة من الديالمة الشيعة) على الحكم في بغداد، أجبروا الحمدانيين على الانكماش في الموصل، وعلى دفع الجزية لهم كذلك.

وفي ظل تلك الفوضى التي غرقت بها البلاد، قرر سيف الدولة الحمداني، ترك الموصل والتوجه إلى شمالي الشام، حيث تمكن عام 944 م من السيطرة على مدينة حلب وضواحيها، والتي كان يحكمها الإخشيديون في ذلك الحين.

والدولة الإخشيدية هي إمارة إسلامية تأسست في مصر عام 935 م، في ظل ضعف الخلافة العباسية، وامتدت في ذروتها وشملت الشام والحجاز.

واستمر حكم الحمدانيين عموما قرابة 77 عاما، منها 59 عاما في حلب وحدها، حيث شكلت فترة حكم سيف الدولة الحمداني العصر الذهبي لتلك الإمارة.

نحو دمشق

وبعد أن استقرت الأمور لسيف الدولة في حلب، حاول توسيع حكمه باتجاه الجنوب بتشجيع ودعم من أخيه ناصر الدولة، ووضع دمشق التي يحكمها الإخشيديون نصب عينيه، ورغم من استطاعته السيطرة عليها بشكل مؤقت عام 945 م فإنه اضطر للخروج منها بسبب الانتفاضة الشعبية ضده، وبسبب الحاكم الإخشيدي في مصر، الذي قاد بنفسه جيشا لمواجهة الحمداني في سوريا وأجبره على التراجع باتجاه الشمال.

وبعد أن وصلت غارات الجيش المصري إلى حلب توصل الطرفان إلى اتفاقية تقضي باعتراف حاكم مصر الإخشيدي بسلطة سيف الدولة الحمداني في شمال سوريا وتقديم جزية سنوية له مقابل أن يتخلى الحمداني عن أحلامه في التوسع وألا يوجه جيوشه باتجاه دمشق ثانية.

وتم ترتيب زواج سيف الدولة الحمداني من ابنة أخ الحاكم الإخشيدي، واستطاع الحمداني انتزاع اعتراف رسمي بحكمه من الخليفة العباسي كذلك.

لكن مع وفاة الحاكم الإخشيدي عام 946 م، ذهبت الهدنة بين الطرفين أدراج الرياح، ففي نفس العام استيقظت أحلام الحمداني في الاستيلاء على دمشق مجددا وجهّز جيشه على الفور متوجها نحو الجنوب للاستيلاء عليها فدخلها وتوجه منها إلى فلسطين ليواجه حاكم الإخشيديين كافور.

غير أنه مني بهزيمة على يد كافور الإخشيدي، مما اضطره للانسحاب إلى دمشق ومنها إلى حمص حيث تجمعت قواته هناك، وفي عام 947 م حاول استعادة دمشق لكنه مني بالهزيمة مرة أخرى.

ولم تكن الهزيمة هذه المرة مقتصرة على حدود دمشق، فقد زحف الإخشيديون باتجاه حلب لمهاجمة الحمداني في عقر داره، ونجحوا بفرض سيطرتهم على حلب مجبرين سيف الدولة على التراجع مع جيشه.

لكن احتلال حلب لم يدم مطولا للعديد من الأسباب، فقد كانت مصر مهددة من قبل الفاطميين آنذاك، والحفاظ على مصر كان أهم بالنسبة للإخشيديين من احتلال الشمال السوري، فضلا عن أن هذا الاحتلال سيكلفهم الكثير من الأموال وفي النهاية فإن حكم الحمداني للشمال السوري يصب في صالحهم لأنه يشكل حصنا أول للدفاع عن البلاد ضد الهجمات البيزنطية.

لذلك قرر الإخشيديون إعلان هدنة مجددا مع الحمداني يعترفون من خلالها بسيطرته على الشمال السوري لكنهم في المقابل توقفوا عن دفع الجزية له.

ورغم من أن سيف الدولة الحمداني لم يتمكن من السيطرة على دمشق كما كان يحلم دائما فإن مملكته امتدت على نطاق واسع شملت حلب وحمص وما حولهما حتى حدود طرطوس وقنسرين ومعظم ديار بكر وديار مضر في الجهة الغربية من الجزيرة الفراتية.

سيف الدولة في مواجهة البيزنطيين

رغم معارك الكر والفر بين سيف الدولة والإخشيديين، فإن البيزنطيين كانوا العدو الأبرز للدولة الحمدانية.

فمع سيطرة الحمداني على حدود الجزيرة والشام، برز اسمه في المنطقة على أنه الأمير العربي الذي لا يوفر جهدا في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية، فقد دعا القبائل من حوله إلى الجهاد وفتح مع البيزنطيين حروبا لا تهدأ، وبات العدو الأبرز لهم في الشرق.

وفي ذلك الوقت كثرت تعديات البيزنطيين على جيرانهم المسلمين، ومع انهيار الدولة العباسية تعاظمت سلطة البيزنطيين الذين لم يجدوا من يردعهم في ظل انقسام العرب وانشغالهم بحروبهم الداخلية.

Omran Abdullah - أمير حلب سيف الدولة الحمداني في بلاطه الملئ بالأدباء والشعراء، المكتبة الوطنية الإسبانية - يتيمة الدهر.. فرص العمل الواسعة للأدباء والشعراء في القرن العاشر الميلادي
رسم يجسد أمير حلب سيف الدولة الحمداني في بلاطه المليء بالأدباء والشعراء (المكتبة الوطنية الإسبانية)

لذلك تلقى الحمدانيون باعتبارهم القوة التي تواجه البيزنطيين الدعم من بعض القبائل، وحظي سيف الدولة بشعبية واسعة لاعتباره البطل الذي يدافع عن العقيدة والدّين، وحتى الإخشيديون أعداء سيف الدولة أدركوا دور الدولة الحمدانية في الجهاد ضد البيزنطيين لذلك اعترفوا بسلطته في الشمال السوري.

وبدأت معارك سيف الدولة مع البيزنطيين عام 936 م، وتوالت بعدها الحملات العسكرية التي شنها ضد البيزنطيين، ومن أبرزها الحملات التي وقعت بين عامي 939 م و940 م عندما غزا الحمداني الجزء الجنوبي الغربي من أرمينيا وانتزع عهدا بالولاء والطاعة من قائدها، كما استطاع إجبار البيزنطيين على التنازل عن عدد من الحصون، لكن انشغاله في حروب جانبية أخرى منعته من الحفاظ على مكاسبه.

عدا عن ذلك، ورغم من الانتصارات التي حققها الحمداني في ساحات المعارك، فإن معاركه كانت ذات طبيعة دفاعية، فلم يحاول شن هجوم على الأراضي البيزنطية للسيطرة على الممرات الجبلية الإستراتيجية، ولم يعقد أي تحالفات مع حكام مسلمين آخرين للإغارة على البيزنطيين، كما أنه لم يهتم ببناء أسطول بحري ولم يعط اهتماما لمنطقة البحر المتوسط.

ومع صعود الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني إلى السلطة واستلامه قيادة الجيش البيزنطي، تغيرت حظوظ الحمداني في المعارك، فقد عمل نقفور على تقوية جيشه واتباع إستراتيجيات جديدة لمواجهة الدولة الحمدانية.

ومع حلول عام 961 م ازدادت غزارة الحملات البيزنطية في الشرق واستطاع الجيش البيزنطي الاستيلاء على عدد من المدن مثل عين زربة في قيليقيا ومرعش ومنبج وعنتاب (تقع الآن في جنوب تركيا)، قبل أن يصل إلى حلب عام 962 م وينهبها ويدمر جزءا كبيرا منها، عدا القلعة التي بقيت صامدة أمام البيزنطيين.

وبعد عمليات النهب غادر البيزنطيون مع قرابة 10 آلاف من الأسرى المسلمين، وكانت تلك أكبر هزائم سيف الدولة الحمداني.

البلاط الحمداني.. ملتقى الشعراء والفلاسفة

تميز عهد سيف الدولة الحمداني بازدهار الأدب ونشاط الحركة الثقافية في الدولة، فقد حرص على تقريب الشعراء وبذل العطايا لهم، وكان من أبرزهم المتنبي وأبو فراس الحمداني (ابن عم سيف الدولة).

كما ارتاد بلاط الحمداني عدد من العلماء والفلاسفة مثل الواعظ ابن نباتة والفيلسوف الشهير الفارابي والشاعر والمؤرخ أبي الفرج الأصفهاني.

ويذكر كثير من المؤرخين بأن ذروة الحياة الشعرية للمتنبي كانت في بلاط سيف الدولة، فخلال السنوات التسع التي قضاها في البلاط الحمداني كتب 22 قصيدة في مدح سيف الدولة.

ولم يكن المتنبي الشاعر الوحيد الذي نسج أجمل قصائده في ظل حكم سيف الدولة، بل نافسه في ذلك أبو فراس الحمداني -ابن عم سيف الدولة- الذي لقب بشاعر "السيف والقلم" لنشاطه في محاربة البيزنطيين من ناحية وفصاحته وجزالة شعره من ناحية أخرى.

وعندما وقع أبو فراس في الأسر، ألف قصيدته الأكثر شهرة والتي يبدؤها بقوله "أما لجميل عندكن ثواب" خلال سنوات سجنه ليستعطف فيها ابن عمه سيف الدولة الحمداني عله يرأف بحاله ويفتديه ليخرجه من السجن.

سيف الدولة الحمداني في عيون بعض المؤرخين

ينظر العديد من المؤرخين والمستشرقين بعين التعظيم إلى سيف الدولة الحمداني، لشجاعته في مواجهة البيزنطيين، وانفراده بساحات الجهاد، ولتشجيعه الأدب والثقافة والشعر من خلال بذل العطايا للشعراء والأدباء.

مع ذلك، رسم بعض المؤرخين من أمثال ابن حوقل، صورة قاتمة عن إمارة حلب في ظل حكم سيف الدولة الحمداني، واصفين الاستغلال الذي تعرض له السكان المحليون من قبل الحمدانيين، حيث ساءت الأوضاع الاقتصادية في البلاد وشاعت مصادرة الأملاك وفرضت الضرائب المرتفعة، مما زاد فقر الناس مقابل ازدياد ثراء الحمدانيين.

وقد وصف المؤرخ ابن مسكويه الصفات المتناقضة التي حملها سيف الدولة بقوله "كان سيف الدولة معجبا بنفسه يحب أن يستبد برأيه، كريما شجاعا، محبّا للفخر والبذخ، مفرطا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدا مظفرا في حروبه، جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه".

وفي حين انتقد بعض المؤرخين سياسات سيف الدولة العسكرية، التي أخفقت في درء خطر البيزنطيين الذين تمكنوا في نهاية المطاف من دخول أنطاكيا بعد وفاته وتحويل حلب إلى ولاية تابعة لهم، إلا أن مؤرخين آخرين دافعوا عن سيف الدولة معتبرين أنه لم يكن يملك الإمكانيات الكافية لهزيمة البيزنطيين هزيمة ساحقة.

ووصف المؤرخ مارك ويتو سلطة سيف الدولة بأنها كانت "نمرا من ورق"، فرغم امتلاك الأمير العربي للعزيمة فإنه افتقر إلى المال والجنود الذين يشكلون القوة الحقيقية اللازمة لهزيمة البيزنطيين.

الوفاة

مع حلول عام 963 م هدأت الحروب بين البيزنطيين والحمدانيين، فمن ناحية كان نقفور منشغلا في تدبير المكائد لاعتلاء عرش الإمبراطورية، ومن ناحية أخرى بدأت معاناة سيف الدولة مع الشلل النصفي، وأصبح غير قادر على إدارة شؤون إمارته بنفسه، فأصبحت ولاية حلب مسؤولية حاجبه وغلامه التركي قرغويه.

ومع عجز الحمداني بدأت التمردات تعصف بالدولة، وتزعزعت سلطة الحمدانيين وبرزت الانقسامات في البلاط والجيش، وفوق هذا وذاك تجددت الحملات البيزنطية ضد الحمدانيين، واضطر الحمداني لطلب هدنة قصيرة منهم عام 966م، عاقدا العزم على مواجهة جميع حركات التمرد التي قامت في الدولة، وبالفعل استطاع القضاء على المتمردين رغم حالته الصحية السيئة.

وعاد البيزنطيون بعد ذلك لمهاجمة الدولة الحمدانية، لكن سيف الدولة لم يعش ليشهد انهيارها، فقد توفي عام 967 م في حلب (وقيل في ميافارقين)، وتم تحنيط جثته ودفنها في ضريح في ميافارقين بجوار والدته وشقيقته، وخلفه ابنه الوحيد الذي عاش بعده أبو المعالي الشريف، المعروف باسم سعد الدولة.

المصدر : مواقع إلكترونية